الثلاثاء - 11 مارس 2025 - الساعة 01:40 م
في قلب اليمن، حيث يلتقي بحر العرب بأمواج من الأمل والأحلام المعلقة، توجد مدينة عدن، التي لطالما كانت رمزًا للسلام، والعراقة، والمودة. عدن، التي عُرفت بقلبها الكبير الذي يَضُمّ الغريب قبل الحبيب، المدينة التي احتضنت ثقافات متعددة وتاريخًا طويلًا من التسامح والحياة المدنية، باتت اليوم تنزف ألمًا وصمتًا، أبناؤها يتبارون مع الجوع, تُصارع جوعًا يأكل من لحوم أهلها، وفقرًا يُذيب كبرياء رجالها، وتحمل على كتفيها جروحًا لا تشفى بسهولة.
يأتي رمضان هذا العام ليكون مختلفًا عن الأعوام الماضية. لا أجواء الفرح التي كانت تملأ شوارع عدن بقدوم الشهر الفضيل، ولا تلك الروائح التي تنبعث من المأكولات الشعبية التي كانت تزين موائد الإفطار!
اليوم في رمضان، تُواجه عدن حالة من الفقر المدقع والجوع الذي يهدد حياة أهلها, الصيام هنا اختبارٌ مريرٌ يتجاوز الامتناع عن الطعام والشراب؛ إنه صيامٌ عن الكرامة أحيانًا، حين يُجبر الأب أن يمد يده طالبًا لقمةٍ تُسكت صرخات أطفاله، أو حين تبيع الأم خمارها القديم لتشتري رغيفًا يدفع الموت عن أحشائهم.
الناس في عدن لم يعودوا يتحدثون عن التقويم الهجري أو عن المساجد الممتلئة في ليالي رمضان، بل أصبحوا منشغلين بالبحث عن لقمة العيش. في كل زاوية من زوايا المدينة، يمكنك أن ترى ملامح التعب والإرهاق على وجوه الأطفال والشيوخ، والرجال والنساء الذين فقدوا القدرة على العيش بكرامة. في تلك الوجوه، ترى قصة معاناة لا تُحكى بالكلمات، بل بالآهات التي لا تجد من يسمعها.
الوجوه هنا تحكي قصصًا لا تُكتب. رجلٌ في الخمسين من عمره، كان يُدير محلاً صغيرًا لبيع البخور، يجلس اليوم أمام منزله المُنهار، ينتظر "مساعدات إنسانية" قد لا تصل. سيدةٌ عجوز تَطحن قمحًا قديمًا بيدين مرتعشتين، تُحاول أن تُصنعَ لاحفادها "خبزًا" قد يملأ بطونهم يومًا واحدًا. شبابٌ في ريعان العمر، يحملون شهادات جامعية، يتسوّلون لقمةً لا تُسمن ولا تُغني من جوع. لا تكاد تجد عائلة في عدن لا تعيش تحت وطأة القلق المستمر, إنه المشهد الأقسى: كرامة إنسان تُباع في سوق النّخاسة الحديث، مقابل وعودٍ ورقيةٍ لا تفي بحقّ الحياة, لا حلول تلوح في الأفق, الأمل أصبح بعيدًا، والأحلام غابت في ضباب الواقع المرير.
ومع هذا، تبقى روح أهل عدن أبية، صامدة. حتى في أحلك الظروف، تجد الأمل بين عيونهم، تجد التكاتف بين الجيران. هم لم ينسوا أن رمضان هو شهر الرحمة والعطاء، رغم قسوة الحياة. حتى وإن كان في قلوبهم الألم، لا يزالون يبادرون إلى مد يد العون لمن حولهم.
ومع غياب الدعم الإنساني والاقتصادي، يبقى أهل عدن في انتظار الفجر الذي يشرق على مدينتهم المنكوبة. هم لا يطلبون سوى أن يعود الزمن للوراء، حين كانت الحياة أسهل والابتسامات أكثر. لكنهم في ذات الوقت يدركون أن الأمل لا يموت، وأن الأمل في الله لا يُحطم، مهما كانت الظروف.
رمضان في عدن هو نداءٌ صامت من خلاله يحمل أهلها رسائل يبعثونها للجميع:
"نحن لسنا أرقامًا في تقارير المُنظمات، ولا صورًا تُثير الشفقة. نحن بشرٌ نُحبّ الحياة كما تُحبّونها، نضحك ونبكي كما تفعلون، لكنّنا نُمسك بأرواحنا كي لا تسقط بين أنياب النسيان".
عدن.. المدينة التي لا تموت، لأنّ الموتَ نفسه يخجل من أن يأخذها. فهل من قلبٍ يسمع؟
✍️/ معاذ علي البكري
عدن - اليمن
11/03/2025م